أين الإنسان؟*
ندية ياسين 09-04-2006
لم يكن بمقدور البشرية أن تصوغ أجمل من هذه الخطابات أو تعرضها على أوسع من هذا النطاق، خاصة ذلك الخطاب الذي يزعم الدفاع عن حقوق الإنسان. خطاب مخدر، كلما ازداد استهلاكه كلما تعاظمت الرغبة في الاستزادة منه، وتزايد الغموض الذي يكتنف هذه الحقوق. وكلما ابتعدنا عن جوهر الإنسان، كلما تشعب بنا الحديث عن حقوقه، فكثر الحديث عن حقوق الإنسان ونحن لا ندرك معنى الإنسان.
أي إنسان؟
أين الإنسان؟
مواطن الحداثة؟
هذا اليائس، التعس، الساخط لأنه لا يستهلك ما يستهلك جاره؟
هذا المخدَر المتعلق بالأوهام؟ المستعذب لوخز الإبر التي تعْبُر به إلى الجنات الجحيمية؟
مواطن الجنوب المُجَهَّل المفَقَّر المبَلَّد؟
أي إنسان؟
أين الإنسان؟
ما أبعد الإنسان عن الإنسان !وما أقل الذين يتوقفون عند هذه الأسئلة المصيرية! فنحن نكتفي بالتعرف على أسرار بعض المعادلات وترويض العلوم الدقيقة ليركبها الإنسان، لأن الفكر الحداثي لا يعترف إلا بمنطق الدراجة: نركب ونسير ولا نطرح أي سؤال، خاصة ذلك الذي يتعلق بمغزى الحركات التي تدير الآلة السياسية الاقتصادية العالمية المعولمة !
وتتكفل الخطب الرنانة الطنانة بتخدير الضمائر وإغراق البشرية تدريجيا في نوم مغناطيسي لن تفيق منه إلا على هول المأساة، ليفقد الإنسان هويته ويتبرأ من القيم التي تميزه عن غيره من الكائنات.
وهكذا يخيم اليأس على أكثر العقول حصافة وتنحني الإرادات أمام الأهواء المهيمنة. أما خطاب كريستيان دوبري في صحيفة لوموند ديبلوماتيك فلن يصدم سوى ذوي المبادئ الرجعية:
"دول المخدرات وديموقراطيات المخدرات، إرهاب المخدرات وحروب عصابات بالمخدرات، سياحة المخدرات ودولارات المخدرات. اكتسحت المخدرات جميع دوائر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأصبحت تواكب عولمة الاقتصاد وديمقراطية السوق. أصبحت وسيلة لتمويل الإرهاب وحروب العصابات(...) وسيلة للبقاء على قيد الحياة بالنسبة لعدد من فلاحي الجنوب ومنبوذي غيتوهات المدن الحديثة، هذا إن لم تصبح النشاط الاقتصادي الوحيد والمشحم الثمين للنظام المالي الرأسمالي. للمخدرات إذن وظائف متعددة، ولذلك يجب أن يسقط القناع عن وجه سياسات المنع التي لا تخدم الصحة العمومية وأن تهيأ التغييرات اللازمة". (1)
لا حل إذن إلا بالاستسلام لما يمليه العالم المتحلل؟
أي حياة أتعس من حياة الإنسان الفاقد لكل هوية، المفتقر إلى جميع المعالم الأخلاقية؟
وأي مصير أشد تعاسة من مصير الإنسان الذي أعمته أهواؤه في الدنيا، فبُعث بعد موته أعمى؟ قال عز وجل: " وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلٌّ سَبِيلاً" (سورة الإسراء- 72).
*مقتطف من كتاب " اركب معنا "- الفصل الأول:"متاهات" فقرة:"ظمأ" من ص50 إلى 51
(1) لوموند ديبلوماتيك، أبريل 1996، ص 222-23.